بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قد أوضحت لكم أيها الأخ المتواضع , في كلامنا المتقدم النافع , والذي دار بيننا , عن أحكام الدماء , بما فيه الغنية , وقد طلبتم مني أن أقيد لكم ما ذكرناه , وأزيد عليه وقد أجبتكم إلى ما أردتم , والله تعالى أسأله القبول لنا ولكم .
أقول :
قد علمتم وفقكم الله ذكر الإجماع , في حكم الدماء , ولكنك تجد أن هذه المسألة , مازالت منتشرة مشكلة , خاض فيها السابقون , ولا يتوانى عنها اللاحقون , مما يجعل اللبيب يتساءل , عن ماهية الإجماع الحاصل !
ولذا قصدن بهذه المقالة , في بيان ماهية الإجماع , في أحكام الدماء , إذ أن التوصل إلى الحكم عبر هذه السيبل , يفيد التقليل إ من القال والقيل ويكون أعظم فائدة لذوي التحصيل , كما ستراه إن شاء الله تعالى.
وسيكون الكلام على ذلك من خلال مباحث متعددة إليك هي :
أولا :
مبحث في ذكر بعض من اشتهر عنه ذكر الإجماع مع ذكر كلامهم من مصادره :
قال الإمام الحافظ السلفي يوسف بن عبدالله النمري المعروف بابن عبد البر رحمه الله :
(وَحُكْمُ كُلِّ دَمٍ كَدَمِ الْحَيْضِ إِلَّا أَنَّ قَلِيلَ الدَّمِ مُتَجَاوِزٌ عَنْهُ لِشَرْطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي نَجَاسَةِ الدَّمِ أَنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا فَحِينَئِذٍ هُوَ رِجْسٌ وَالرِّجْسُ النَّجَاسَةُ وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ رِجْسٌ نَجِسٌ إِلَّا أَنَّ الْمَسْفُوحَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْجَارِي فِي اللُّغَةِ فَإِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ فِي الشَّرِيعَةِ الْكَثِيرُ إِذِ الْقَلِيلُ لَا يَكُونُ جَارِيًا مَسْفُوحًا فَإِذَا سَقَطَتْ مِنَ الدَّمِ الْجَارِي نُقْطَةٌ فِي ثَوْبٍ أَوْ بَدَنٍ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا حُكْمَ الْمَسْفُوحِ الْكَثِيرِ وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْقَلِيلِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى أَصْلِهَا فِي اللُّغَةِ ... قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي الدَّمِ فَقَالَ إِذَا كَانَ فَاحِشًا قِيلَ لَهُ فِي الثَّوْبِ فَقَالَ فِي الثَّوْبِ وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْجَرْحِ قِيلَ لَهُ السَّائِلُ أَوِ الْقَاطِرُ فَقَالَ إِذَا فَحُشَ أَذْهَبُ إِلَى الْفَاحِشِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمُوا فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ كَانَ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أَنْفِهِ وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً وَابْنُ أَبِي أَوْفَى تَنَخَّمَ دَمًا وَجَابِرٌ أَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي أَنْفِهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ إِذَا كَانَ .. قَالَ أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ غَيْرُ الدَّمِ لِأَنَّ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ تُعَادُ مِنْهُمَا الصَّلَاةُ وَيُغْسَلُ قَلِيلُهُمَا وَكَثِيرُهُمَا قَالَ وَالدَّمُ إِذَا فَحُشَ تُعَادُ مِنْهُ الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ كَمَا يُعَادُ مِنْ قَلِيلِ الْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ قَالَ أَبُو عُمَرَ قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى التَّجَاوُزِ وَالْعَفْوِ عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ مَا لَمْ يَتَفَاحَشْ وَهَذَا أَصْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ .
(التمهيد 22/230)
قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر رحمه الله:
(قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَاتِ إِنَّمَا تُزَالُ بِالْمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ لِأَنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ بِمَثَابَةِ الدَّمِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِجْمَاعًا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَيْ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ ... ) ( فتح الباري 1 /313 )
وقال الحافظ الإمام السلفي حمد بن إبراهيم الخطابي الآنف الذكر في شرح سنن أبي داود المعروف بمعالم السنن :
(وقد يحتج بهذا الحديث من لا يرى خروج الدم وسيلانه من غير السبيلين ناقضا للطهارة ويقول لو كان ناقضا للطهارة لكانت صلاة الأنصاري تفسد بسيلان الدم أول ما أصابته الرمية ولم يكن يجوز له بعد ذلك أن يركع ويسجد وهو محدث، وإلى هذا ذهب الشافعي.
وقال أكثر الفقهاء: سيلان الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء وهذا أحوط المذهبين وبه أقول.
وقول الشافعي قوي في القياس ومذاهبهم أقوى في الاتباع .. )
( معالم السنن 1 / 70)
قال الحافظ الفقيه أبي زكريا يحيى النووي :
(باب نجاسة الدم وكيفية غسله ...وَفِيهِ أَنَّ الدَّمَ نَجِسٌ وَهُوَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ )
(شرح مسلم 300/2 )
وقال الحافظ المقدام الذكي آية زمانه أبو محمد أحمد بن علي بن حزم:
(وَاتَّفَقُوا على أَن الْكثير من الدَّم أَي دم كَانَ حاشا دم السّمك وَمَا لَا يسيل دَمه نجس وَاخْتلفُوا فِي حد الْكثير من الظفر إلى نصف الثَّوْب )
( مراتب الإجماع 1/19 ) .
ثانيا:
مبحث فيه توضيح لسبب الحصر على الجمع المذكور أعلاه :
أ/
المنقولات المذكورة أعلاه ينبغي أن تكون أكثر من كافية لإثبات الإجماع المقصود ، والذي مضى عليه أهل العلم في هذا الباب أي في باب الإجماع هو إثبات قول من أثبته إن كان من أهله – أي ممن عرف عنه نقل الإجماع – حتى يأتي ما ينقضه سواءا تقدم عليه أو تأخر فالحجة للمثبت حتى يأتي النافي بحجة تزيل حجة من أثبت والكلام في هذا تجده في أبواب الإجماع من كتب الأصول وليس هذا محله .
ب/
فإذا علمت ذلك أيقنت أن استقراء الإجماع والتشغيب به وبعدد من نقله له فائدة زائدة مغايرة ليست هي مقصودة في تحرير المسألة المذكورة أي أن الفائدة في ذلك إنما ترجع إلى إثراء المعرفة أي معرفة من ذكر الإجماع لا إلى أصل الإستدلال به إذ أنه حاصل قائم بنقل العدل الواحد كما تقدم قريبا وهذا واضح فلايغرنك العدد ولا حاجة للتعداد . وسياق مثل ذلك في أثناء البحث عن حكم الدماء فيه نوع من الحشو .
ت/
تنبيه في فائدة :
وقد سبرنا لكم قصدا في النقل أعلاه أنواع متعددة في من نقل الإجماع فمنهم من عرف عنه التساهل فيه أحيانا كالنووي رحمه الله ولهذا أطلق وسيأتي بيانه ، ومنهم من تشدد فيه كابن حزم ولهذا قيد المقيد بعد تقييده! فقال اتفقوا ولم يقل أجمعوا كما ترى ومنهم المتوسط كابن تيمية وابن عبدالبر رحمة الله تغشى الجميع.
ث/
تنبيه آخر :
وهو أن الحصر بمن تقدم إنما هو مني لقلة مصادري ولضيق وقتي وهو كاف لمن تأمل!
ثالثا :
مبحث فيه بيان وإيضاح للمنقولات المذكورة أعلاه:
في هذا المبحث نتناول معكم كلام من تقدم من أهل العلم لنتفهم معناه , ونستخلص الخلاصة , و التي سيبني عليها الحكم لاحقا .
اولا :
في كلام ابن عبدالبر رحمه الله :
تجد أن كلامه المتقدم رحمه الله مذكور تحت حديث أسماء بنت أبي بكر من كتابه التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، وذلك أثناء الكلام عن أحاديث هشام بن عروة رحمه الله إذ أن كتابه المذكور مرتب على حروف الهجاء لمشيخة مالك رحمه الله .
وفي الحديث المذكور
( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرِصْهُ ثُمَّ لْتَنْضَحْهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ لْتُصَلِّ فِيهِ) وهو مخرج في الصحيحين .
و قال (وَحُكْمُ كُلِّ دَمٍ كَدَمِ الْحَيْضِ) لأنه هو الأصل الذي بنى عليه حكم المسألة .
ويستفاد من كلامه ما يلي :
ا
نقل إجماع المسلمين صراحة في نجاسة الدم المسفوح .
ب
أن الدم المسفوح عنده كدم الحيض من جهة الحكم بالنجاسة أما من جهة ما إذا أصاب الثوب ونحوه فإن فيه نوع تخفيف لأنه المقصود بالحكم هو الدم الكثير والذي هو بمعنى المسفوح .
ج
يرى أن حكم النجاسة المجمع عليه إنما هو في الكثير المسفوح وهذا ظاهر في كلامه ومنقولاته ولهذا قال بعد أن ذكر طهارة دم البراغيث ما لم يفحش قال وهذا أصل في هذا الباب أي كأنه يقول وعليه فقس إذ أنه معلوم أن دم البراغيث لا يتفاحش أبدا والله الموفق .
د
نقله عن الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله نجاسته إذا كان متفحشا أي كثيرا. أحمر
ه
نقله الإجماع على التجاوز والعفو في دم البراغيث وجعلها أصلا لبابها. أزرق
ب/ في كلام الحافظ ابن حجر والإمام الخطابي رحمهما الله :
ذكر الحافظ كلام الخطابي رحمه الله كذلك تحت حديث أسماء رضي الله عنها المتقدم في الحيض مقرا له ومحسنا إياه وكلامه المتقدم عند الحافظ فيه إشكال فهل المراد بقوله إجماعا أي أن الدم مثل بقية النجاسات في الحكم بالنجاسة أم أن المراد أن بقية النجاسات مثل الدم في إزالتها بالماء إجماعا .
أقول هذا هو المتبادر إلى الذهن فهو أي الحافظ في مقام الكلام عن تعين الماء لإزالة النجاسة من غيره وليس في مقام الحكم على الدم إذ أن الدم المذكور في الباب هو دم الحيض ومعلوم بالضرورة حكمه .
وعلى كل فلا حرج في توصيفه على المسألة المذكورة فإنه لو قيل أنه إنما أراده حكم الدم قلنا لا بأس ولكن لابد من توجيه كلامه الذي أوردناه من المعالم أصالة وفيه إثبات الخلاف في حكم الدم فإنه ذكر سيلان دم الإنسان من غير السبيلين وأن الشافعي لايرى بطلان الصلاة للحديث المذكور المعروف بينما يذهب في إلى خلاف مذهبه آخذا بقول أكثر الفقهاء وهم الجمهور أي ببطلانها ببطلانها بسبب نجاسة الدم.
والتوجيه الأسلم لكلام الخطابي أن يقال :
إن الخلاف المذكور في مبحثه مختص بمسألة مخصوصة وهي مسألة الجروح فإن سيلان الدم في الجروح سيلان مخصوص لا يصل إلى حد المسفوح في الغالب ودليل هذا التوجيه هو القصة التي أورد فيها المسألة المذكورة وعليه فلا تناقض مع الإجماع المذكور في نقل الحافظ عنه أو في نقل غيره . والحمد لله على توفيقه .
ويستفاد مما سبق من الفقرة "ب" ما يلي :
ب1/ لافرق بين جميع النجاسات وبين دم الحيض والدم المسفوح –على ما تقدم- إجماعا .
ب2/ إثبات خلاف الفقهاء في سيلان الجروح وأن الشافعي لايرى بطلان الصلاة منها خلافا للجمهور لظاهر نص حديث جابر رضي الله عنه المتقدم .
ت/ في كلام الحافظ النووي :
وأما الحافظ النووي فقد ذكر الإجماع كذلك تحت حديث أسماء المذكور ولكنه أطلق لفظة الدم ولم يقيد فهل هذا تساهل أم أنه إعراض عن تقييد معلوم .. كل ذلك محتمل وعليه فإن إحسان الظن بهذا الفذ النحرير أن يقال لايخفى على مثله رأي مذهبه في الجروح وهذا الإجماع في مالانفس له سائلة كالبراغيث ونحوها أو في دم السمك وغير ذلك ، إذا هو لا شك إعراض عن تقييد معلوم لوضوح السياق فهو مذكور في باب الحيض كما أسلفنا والله أعلم .
ث/ في كلام الحافظ العلامة ابن حزم رحمه الله :
يستفاد من كلام هذا البحر مايلي :
ث1/ نقله الاتفاق على نجاسة الكثير من أي دم كان وهو المقصود بالمسفوح في كلام الجميع.
ثاء2/ عدم تعريجه على دم الجروح في السياق هو إقرار منه على عدم انضباط الإجماع فيه كما هو الحال في الدم الكثير، وهذا معلوم لمن تأمل منهجيته في المراتب لاسيما وأنه عرج على الخلاف في معنى الكثير والقليل بينهم بعد ذلك ، إذا هي متابعة قوية لشيخه وقرينه الإمام ابن عبد البر رحمهم الله جميعا وقرينة صالحة في السياق .
رابعا/ مبحث في ذكر بعض من فهم منه مخالفة الإجماع وبيان ذلك :
قال الحافظ العلامة الشوكاني رحمه الله :
وأما سائر الدماء-أي عدا دم الحيض- فالأدلة فيها مختلفة مضطربة والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير لكان ذلك مفيدا لنجاسة الدم المسفوح والميته ولكنه لم يرد ما يفيد ذلك بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب والظاهر رجوعه إلى الأقرب وهو لحم الخنزير لإفراد الضمير ولهذا جزمنا ههنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة والدم الذي ليس بدم الحيض ولاسيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها كما ثبت في الصحيح بلفظ: "إنما حرم من الميتة أكلها" ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد بعد جملة مشتملة على أمور متعددة . ا.ه
أقول : ذكر الشوكاني رحمه الله هذا الكلام في مقام ذكر النجاسات من كتاب الدراري وهو أضبط وأمتن في مسألة الدم من كلامه في السيل وغيره فنكتفي به .
وقد ذكر النجاسات ومنها دم الحيض دون غيرها ولم يعرج على ذكر الإجماع في المسألة وإنما اكتفى بذكر سبب النفي وهو اضطراب الأدلة ولم يذكر منها الإجماع إما لأنه لم يثبت عنده كأن يكون مستنده عنده ضعيف غير ظاهر وهذا يحصل منه مرارا رحمه الله .
والشوكاني رحمه الله رغم ظاهريته المعقولة والمقبولة إلا أنه مقر للإجماع معظم له وهذا واضح في كتبه وانظر على سبيل المثال لا الحصر كتاب الإرشاد في الأصول فإنه سلك في باب الإجماع فيه مسلكا معتدلا ، إذا فلعل السبب هو ما ذكرناه من عدم ثبوته أو ثبوت مستنده وهو تأويل سائغ نظرا لاضطراب الأدلة في أحكام الدماء على وجه العموم وعليه فليس هذا من الشذوذ بل بل له في ذلك حظ من النظر لكل منصف والله أعلم.
أقول وقد تبعه في تقريره في حكم الدماء عموما الإمام العلامة المدقق الألباني رحمه الله والإمام العلامة ابن عثيمين رحمه الله إلا أن الشيخ ابن عثيمين صرح بنجاسة المسفوح منها مرجحا قول من يقول أن الضمير في الآية يعود إلى المذكورات جميعا مع اعترافه بالنزاع الحاصل بين المفسرين في آية الأنعام وانظر الشرح الممتع .
إذا فبعد التمحيص والنظر تجد أن كلام العلامة الشوكاني ومن رأى رأيه ليس هو مخالف للإجماع أو شذوذ منهم كما توهم البعض بل هو اختلاف في تنزيل الإجماع المذكور على أنواع الدماء !
أي هل الإجماع في الدماء مخصوص بدم الحيض لوضوح المستند وهل هو كذلك في الدم المسفوح كقول عامة العلماء أم يتعدى لغير ذلك!
ولهذا قال العلامة الشوكاني في السيل ما نصه :
وإذا تقرر لك هذا وعلمت بأن الأصل طهارة الدم لعدم وجود دليل ناهض يدل على نجاسته فاعلم أنه قد انتهض الدليل على نجاسة دم الحيض لا لقوله سبحانه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] ، فإن ذلك ليس بلازم للنجاسة فليس كل أذى نجس بل بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر بغسله و بقرصه وبحته و بحكه و تشديده في ذلك بما يفيد أن يكون إزالته على وجه لا يبقى له أثر فأفاد ذلك أنه نجس فيكون هذا النوع من أنواع الدم نجسا ولا يصح قياس غيره عليه لأنه من قياس المخفف على المغلظ. ا.ه
وانتبه إالى قوله (قد انتهض الدليل على نجاسة دم الحيض لا ... ) .
وأما الإمام الألباني رحمه الله
فقد تبع الشوكاني في تنظيره المسألة بما يغني عن إعادتها وذلك في بحث له في السلسلة الصحيحة تحت حديث أم قيس بنت محصن في غسل دم الحيض كذلك حيث قال في مطلع كلامه (أن دم الحيض نجس للأمر بغسله، وعليه الإجماع كما ذكره الشوكاني (1 / 35) عن النووي، وأما سائر الدماء فلا أعلم نجاستها اللهم إلا ما ذكره القرطبي في " تفسيره " (2 / 221) " اتفق العلماء على نجاسة الدم" .هكذا قال " الدم " فأطلقه، وفيه نظر من وجهين ا.ه
ثم ذكر الوجهين فراجع ذلك إن أحببت وفيها ذكر أثر لابن مسعود وصححه وينبغي ألا يهمل وهو عن محمد بن سيرين عن يحيى الجزار قال: صلى ابن مسعود وعلى بطنه فرث ودم من جزور نحرها، ولم يتوضأ. أخرجه عبد الرزاق في " الأمالي " (2 / 51 / 1) وابن أبي شيبة في " المصنف " (1 / 151 / 1) والطبراني في " المعجم الكبير(3 / 28 / 2) وإسناده صحيح أخرجوه من طرق عن ابن سيرين ويحيى بن الجزار قال ابن أبي حاتم (4 / 2 / 133) : " وقال أبي وأبو زرعة: ثقة ". ا.ه
أقول : فهو أثر يستأنس به إلا أنه لا تقوم به الحجة فإن في كلام ابن عبدالبر المتقدم ما يقيد هذه الحال , علما أن الجزار المذكور يبعد لقيه ناهيك عن سماعه من ابن مسعود فإن أهل العلم مختلفين في سماعه من علي فكيف بابن مسعود ولكنه يروي عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود –مختلف في صحبته- عنها عن ابن مسعود ولكن يبدوا أن الشيخ الألباني رحمه الله جزم بصحة الأثر لما احتفت به من قرائن قوية منها رواية ابن سيرين عنه وكذلك توثيق من وثقه وكذلك روايته عن آل ابن مسعود عنه ومنها أنه كوفي معروف وابن مسعود معدود منهم وغير ذلك , إذا ليس ذلك شذوذا منه رحمه الله كما توهمه البعض لسوء فهمه ، وإنما هي حدود الأدلة والآثار في نظره ولهذا دائما ما كان يكثر رحمه من قول أن تحليل ما حرم الله ليس أعظم جرما من تحريم ما أحل الله تعالى وقد اعتذر له الفضلاء بمثل ذلك في مسائل هي أظهر وأجلى من مسألتنا هذه ، كمسألة الذهب المحلق أو كصيام يوم السبت وراجع كلام المنصفين في ذلك والحمد لله على تسديده.
وقد خالفه بعض طلابه في المسألة المذكورة وذهبوا إلى قول ابن عثيمين رحمه الله ورأوه وسطا عدلا بين الأقوال والله أعلم .
خامسا/ خلاصة المباحث :
إذا يتلخص لنا من المباحث الماضية مايلي :
أولا/ الإجماع المنعقد في نجاسة الدماء ينصرف أولا إلى دم الحيض ثم إلى الدم المسفوح على الخلاف المذكور وبالتالي لا ينبغي أن يصرف إلى غيره .
(وهذا ما ذكرته لك بلفظه في المكالمة)
ثانيا / عند التحقيق تجد أن مستند الإجماع المنعقد في دم الحيض ظاهرا جليا متينا بينما تجده في الدم المسفوح لا يخلو من احتمال هذا وقد نقل فيه الإجماع كما تقدم.
وهل يصح أن يعتبر تصريح من صرَّح بالإجماع في الدم المسفوح مرجحا لهذا الاحتمال ؟
محتمل كذلك .
ثالثا / إطلاق من أطلق في نقله الإجماع على نجاسة الدم كالقرطبي والنووي وغيرهم محمولة على نوع خاص منه وليس على كل أفراده وقد تقدم .
ملاحظة :
وهنا أنبه على أن جلهم ذكروا ذلك الإطلاق في مقام شرحهم لأحاديث غسل الحيض وليس ذلك فقط بل إن مظان هذه المسألة و الإجماعات المذكورة فيها إنما تجدها في الغالب في هذا الباب مما يدعوك إلى إعادة النظر في كلامهم مرارا فإن قياس الدماء مطلقا على دم الحيض كما يقوله الكثير لا يستقيم لا شرعا ولا عقلا وهنا مربط الفرس وقد تقدم .
رابعا / التتبع والاستكثار من ذكر من نقل الإجماع و تقصيهم لا يفيد فائدة مرجحة للاضطراب المتقدم .
خامسا / والمراد به هو اضطراب عظيم في ماهية الأدلة وفهمها وتنزيلها بل حتى صارت الأدلة و الدعاوي في مقاما واحدا عند الترجيح عند البعض والله المستعان .
سادسا/ سيلان دم الإنسان الناتج عن الجروح ونحوها كالرعاف والاستحاضة محمول على القليل عند الأكثرين وبهذا التوجيه تنقاد الأدلة بلا تناقض ولا اختلاف فدونك بها فهي فائدة عزيزة وبالتالي لا ينبغي أن يذكر دم الإنسان في مقام ذكر الدم المسفوح بل هو خلاف مقصود آية الأنعام كما هو ظاهر .
وإني لأعجب ممن يرى نجاسة سيلان دم الإنسان كيف يفعل مع امرأته إذا كانت مستحاضة فهو بين أمرين لا ثالث له فإما طلاقها أو ادعاء الضرورة وهيهات , وقد علمنا جزما كما في الصحيحين وغيره أن بعض أزواجه عليه الصلاة والسلام كن مبتلايات به .
سابعا / دم البراغيث وما في بابها مما لا سيلان فيه معفو عنه اتفاقا للمشقة ويدخل في ذلك دم السمك وأما ماورد عن بعضهم خلافه في دم السمك إنما هو لأجل أن هناك قولا بنجاسة ميتته فليس هو خاص بالدم وهو قول بعيد مصادم لصريح الأدلة كما هو في حديث جابر وابن عمر رضي الله عنهم.
بل وعند من أبعد تراهم لا يحلون شيئا من البحر إلا السمك لاسيما إذا شابه حيوان البر وليس هذا موضوعنا ولكن لبيان بعد القول وسلامة كلام ابن حزم ولهذا لم ينتقده ابن تيمية رحمه الله .
ثامنا / نزاع من خالف من العلماء المتأخرين في أنواعه ليس هو من الشذوذ المنكر للإجماع كما توهم البعض كيف وهم من أهله ومن المعظمين له على طريقة أهل السنة ولكن نزاعهم ناتج عن الاضطراب في ماهية الإجماع المتقدم .
تاسعا / أدلة الباب كثيرة مختلفة أنواعها أشهرها في هذا الباب أحاديث أسماء وعائشة وأم قيس في الحيض وحديث جابر في قصة الأنصاري وحديث سهل بن سعد في جرح النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود وابن عمر في الجراد وأبي هريرة في الذباب ، و باجتماعها جميعا تدل على ما قدمنا والله أعلم .
عاشرا/ إعتماد الأدلة قبلة ثم توجيه الأقوال إليها والجمع بينها من خلال الدليل وحده ينتج فقها غزيرا وعلما وفيرا لبركة تعظيم الأدلة .
والله أعلم .
انتهى وهو جواب لسؤال أخ فاضل عن ماهية الإجماع في الحكم على الدماء .
والحمد لله على توفيقه وعلى نعمه اللتي لاتحصى ولاتعد .