📌 (٣) تأصيلات تيمية وتقريرات علمية في تمييز سبل العلم والهدى
قال:
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَحْكَمَ فِي بِدْعَتِهِ يَرَى أَنَّ قِيَاسَهُ يَطَّرِدُ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عِنْدَهُ - وَإِنْ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ كَثْرَةَ مُخَالَفَةِ النُّصُوصِ - وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ الْإِرَادِيَّةِ تَجِدُ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَطَّرِدُ قِيَاسُهُ طَرْدًا مُسْتَمِرًّا فَيَكُونُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَجْوَدَ مِمَّنْ نَقَضَهَا وَتَجِدُ الْمُسْتَنَّ الَّذِي شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ قَدْ يَقُولُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ فِي مَوَاضِعَ؛ مَعَ اسْتِشْعَارِ التَّنَاقُضِ تَارَةً وَبِدُونِ اسْتِشْعَارِهِ تَارَةً وَهُوَ الْأَغْلَبُ، وَرُبَّمَا يُخَيَّلُ بِفُرُوقِ ضَعِيفَةٍ فَهُوَ فِي نَقْضِ عِلَّتِهِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِيهَا يَظْهَرُ أَنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْعِلْمِ وَالْخِبْرَةِ وَطَرْدِ الْقَوْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ كَانَ فَاسِدًا فِي أَصْلِهِ: لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ فَاَلَّذِي طَرَدَهُ أَكْثَرُ فَسَادًا وَتَنَاقُضًا مِنْ هَذَا الَّذِي نَقَضَهُ.
أقول :
📌أولا في بيان معنى تأصيله رحمه الله:
يريد شيخ الإسلام بهذا التأصيل العميق والفهم الدقيق أن من وقع في تقعيد خاطئ "مبتدع" وتوصل به إلى إنفاذ حكم على أعيان أو أقوال أو أفعال مع استحكام تلك الفكرة (التقعيد الخاطئ) على نهجه فإنك ستراه يضطرد في ذلك التقعيد في كل ما يراه مماثلا لتلك البدعة والتي بعضها قد يكون محتفا بقراينة تفيد معنى المخالفة لكن على نحو ضعيف و سترى آخرين ممن يسلكون سبيله في أصل التقعيد الخاطئ يخالفونه في ذلك الإضطراد لأنهم غير مسحتكمين للفكرة مثل الأول (والاستحكام هنا بمعنى غاية الثبات والتشدد فيها) وقد يشعر هذا الأخير غير المستحكم بالتناقض لمغايرة الحكم في مقام دون آخر والسبب في ذلك الشعور هو ضعف تلك الفوارق رغم أن ذلك التقعيد "المبتدع" يقتضيه! ثم أردف هذا التأصيل السببي بتأصيل النتيجة فبين أن الأول من حيث إعمال أصوله أصح لأنه اضطرد في التقعيد في مقام لايصح فيه الاستثناء بسبب ضعف الفوارق ،ولكنه أسوأ في النتيجة إذ أن تقعيده ذلك في أصله خطأ وبالتالي فإن اضطراده عبارة عن استفحال في الخطأ لا غير.
والآخر تناقض باستثنائه لتلك المتماثلات بدعوى الفروق الضعيفة لأنها لا تكفي لدعوى الاستثناء من ذلك التقعيد الخاطئ الذي يعتقده ولكنه في النتيجة أفضل من الأول لأن استثنائه جعله أقل خطأ من الأول.
📌مثال للتقريب :
فمثلا أيها القارئ وفقنا الله وإياك تجد أن الحافظ ابن حجر ومن كان في مثل حاله من العلماء رحمهم الله قد وقعوا في بدعة تأويل بعض الصفات مثلا وهي من حيث التأصيل الشرعي أشد و أبعد من بدعة من ينادي بتوحيد الحاكمية مثلا .
إذ أن الأدلة الشرعية تثبت معنى التوحيد في الحكم كقول الله تعالى "إن الحكم إلا لله"ولكننا ننكر إفراده عن أصله والذي هو توحيد الربوبية والسبب في ذلك أن دعوى الإفراد محدث من القول أحدثته الخوارج بقصد التوصل به إلى مايريدونه من شق الصف والخروج ، فهو معنى حق ولكنهم أردوا به باطل الخروج على الحكام وإثارة الثورات على الأمة واستحلال الدماء ، بخلاف تأويل صفات الباري فإنها بدعة محضة لا تحتمل التفصيل بحال ولذا لا ينبغي أن يختلف في تبديع جنس متكلمة الصفاتية .
📍ومع ذلك فإنك تجد التلطف في عبارات أهل السنة بشأن الحافظ ومن إليه فيما وقعوا فيه رحمهم الله تعالى مع بيان أخطائهم بخلاف غاراتهم على معاشر الحاكمية وقبل ذلك على متكلمة الصفاتية ككل.
📍وفي الجانب الآخر :
تجد أقواما لجهلهم قد قعدوا تقعيدات خاطئة محدثة في سيرهم المنهجي مثل "من لم يبدع المبتدع فهو مبتدع مطلقا " ومنها مثلا "الواجب الهجر والتحذير ممن أقام على بدعة و إلم يدعوا اليها مطلقا " و "لا إجتهاد في مسائل التبديع مطلقا" و غير ذلك من سفاسف الاطلاقات والمفاهيم المخالفة لنهج علماء الأمة سلفا وخلفا.
📍ومع ذلك فإن أصحاب هذا التقعيد الخاطئ والسير الخطير تراهم في تطبيقها على ضوء ماذكرناه في حال الحافظ وبدعة التأويل على صنفين وهم المستحكم المضطرد جريئ الكلمة وآخر غير مستحكم فتارة ينفذ الحكم كالأولين وتارة يستثني على استحياء وهو في ذلك ربما لا يشعر بالتناقض وربما يشعر فيقول في نفسه لماذا استثنينا والشبه ظاهر ?
ثم يجيب نفسه بتبريرات ضعيفة يتلقفها الآخر عن الأول منهم مآلها في المجمل إلى التقليد ككن مع إخوانك "الجماعة"!
أو قد استثناه العلماء فمن أنا !
فهو يفهم وجه التقعيد الذي هو في أصله خطأ(من لم يبدع...) ولكنه مشوش في ماهية الاستثناء الذي هو في نتيجته صواب (إعذار الحافظ والحكم بسنيته) !
📌والآن انظر إلى دلالات المعنى الدقيق في تأصيل الإمام ابن تيمية بتطبيقه واقعا على القضية المذكورة وهو أحد الشواهد على استقرائه الأدلة والأحوال بفهم عميق و ذهن ثاقب وذكاء وقاد وذلك كالتالي :
📌تجد أن معاشر المستحكمين المتشددين في تلك التقعيدات والإطلاقات الباطلة مثل من "لم يبدع المبتدع فهو مبتدع" قد اضطردت أحكامهم فيها فأعملوها مطلقا حتى أجروا التبديع كإجراء الكهرباء في موصلات النحاس!
واضطردت أحاكمهم في هجر من وصف ببدعة حتى تفرد بعضهم في مجتمعه تفرد المسوس أو صاحب الحالة النفسية فلا حكمة ولا دعوة !
📍 ومن أشهر هؤلاء المتكلفة في عصرنا محمود المصري المعروف بالحداد والذي طرده الإمام المحدث أبو عبد الأول الأنصاري من مجلسه في مكتبته عند أن صرح الحداد أمامه بوجوب إتلاف كتاب الفتح للحافظ ابن حجر بحكم أنه مشتمل على التأويل والتأويل بدعة فصار الكتاب من كتب أهل البدع والحافظ بهذا مبتدع فلابد من هجره بهجر علمه..الخ .
والسبب في ذلك هو ما أشار إليه ابن تيمية في تأصيله حيث أن الحداد إنما أجرى تلك القواعد المصطنعة على إطلاقها ولم يستثني ولذا حدى به الأمر إلى الطعن في شيخه أولا وهو الذي علمه الخير "العلامة حماد " ثم غيره من إخوانه كابن باز ثم صرح بتبديع الألباني ثم جرح في الشنقيطي وهكذا ...
ومن أعجب ما قرأت لهذا المارق كلامه في ابن تيمية رحمه الله ما مفاده "مميع في التعامل مع أهل البدع!" وفي الذهبي ما مفاده
"لا يعتمد عليه لأنه صاحب موازنات".
📍ثم الصنف الآخر وهم غير المستحكمة وهؤلاء الذين تناقضوا مع قواعدهم رغم أنهم أفضل حالا من حيث النتيجة فهم يعتقدون مثلا "من لم يبدع المبتدع فهو مبتدع" فيبدعون كثيرا ممن يتوقف أو لم يظهر له تبديع مبتدع لربما يكون يكون منتسبا لمتكلمة الصفاتية أو لربما أدنى من ذلك أو لربما غير ذلك ولكنهم مع ذلك يحققون سنية وجلالة الحافظ ابن حجر رحمه الذي يقول في الفتح تحت حديث النزول "وقال ابن العربي: حكي عن المبتدعة رد هذه الأحاديث، وعن السلف إمرارها، وعن قوم تأويلها. وبه أقول؛ فأما قوله (ينزل) فهو راجع إلى أفعاله؛ لا إلى ذاته؛ بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه"
فالحافظ هنا يصرح بخلافه لما يثبت أنه مذهب للسلف ويقول بقول من خالفهم وهم المبتدعة المتأولة ومع ذلك تجد غير المستحكمة من أصحاب من لم يبدع المبتدع فهو مبتدع يقولون بسنيته إجمالا وجلالته تبعا لعلماء الأمة من بعده فكلام العلماء قطع عليهم الإضطراد ولكنه أوقعهم في الحيرة و الإضطراب فيوافقنهم هنا ويخالفونهم هناك!
وإذا سألتهم عن الفوارق التي جعلتكم تستثنون الحافظ من التقعيد فهي في غاية من الضعف إذ أنها لاتعدوا أن تكون تبريرا للحيد عن أصل ذلك التقعيد الفظيع يتلقفه بعضهم عن بعض دون تحقيق وليست هي من الحجج في شيء .
📍فمنهم من يقول لعلمه وعطائه للأمة وهذا على وجه الاحتجاج بالأصالة فارق ضعيف إلا إذا كانت جهته ممن لا يتفق مع هؤلاء في مثل تلك التقعيدات الفاسدة أصلا لأنه مفارق لوجه التناقض ابتداءا وهذا واضح ، أو كان مقصد ذلك التبرير هو الاعتضاد به كقرينة فقط، وذلك لأننا نجزم أن هناك من كان مثله في العلم إلم يكن أعلم وفي البذل للأمة كذلك ومع ذلك هو مبتدع صراح كالزمخشري مثلا قال فيه الذهبي علامة تخرج به أئمة وكان رأسا في البلاغة والعربية والمعاني والبيان ، وله نظم جيد ومع ذلك قال هو كبير المعتزلة داعيا إليه وغير الزمخشري كثير!
📍ومنهم من يقول كلاما مفاده كثرة فضائله ونحو ذلك من الألفاظ المطاطة التي يرد عليها ما أوردناه على الأول إذ أنها صفات لم تكن قط حكرا على أهل السنة فأهل السنة هم أكثر الناس فضلا وقد يوجد في غيرهم من هو فاضل كذلك لأمر اختاره الله له كصلاح الدين صاحب دولة بني أيوب مثلا وغيره كثير.
وهذه كلها فوارق تكون في غاية الضعف إذا ما أوردها هؤلاء خاصة على وجه الأصالة لا على وجه الاعتضاد بسبب ما تقعيداتهم الخاطئة التي يعتمدونها وأبعد من ذلك من قال أن الحافظ وأمثاله لم تبلغهم الحجة الصحيحة والمنهج السلفي وبعد هذا جلي من كلام الحافظ المذكور آنفا فإنه ذكر منهج السلف في تلك المسألة ومع ذلك رجح قول غيرهم!.
ومن هنا تعلم مقصود الإمام رحمه الله تعالى في قوله ( وَتَجِدُ الْمُسْتَنَّ الَّذِي شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ قَدْ يَقُولُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ الْقِيَاسَ فِي مَوَاضِعَ؛ مَعَ اسْتِشْعَارِ التَّنَاقُضِ تَارَةً وَبِدُونِ اسْتِشْعَارِهِ تَارَةً وَهُوَ الْأَغْلَبُ. وَرُبَّمَا يُخَيَّلُ بِفُرُوقِ ضَعِيفَةٍ).
📌فإن قال قائل فما هو الوجه الصحيح الذي استثنينا به الحافظ رحمه الله ومن إليه من الحكم عليهم بالبدعة رغم وقوعهم فيها صراحة ? فالجواب على ذلك هو التقرير العلمي الذي أردناه من تأصيل ابن تيمية السابق وهو لازم لنقض تلك التقعيدات الفاسدة أصلا ولا بد فأقول :
قال ابن تيمية :
ومما ينبغي أيضا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام: على درجات منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة. ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه؛ فيكون محمودا فيما رده من الباطل وقاله من الحق؛ لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها؛ ورد بالباطل باطلا بباطل أخف منه وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة ، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين؛ يوالون عليه ويعادون؛ كان من نوع الخطأ. والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك. ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها: لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة..
أقول :
إن قوله (ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين؛ يوالون عليه ويعادون؛ كان من نوع الخطأ) تقرير لضابط الإعذار فليس السبب هو أنهم فقط علماء وفضلاء بل السبب الرئيس هو لأنهم ليسوا من أهل البدع أصلا فهم وإن كانوا قد وقعوا في البدعة إلا أنهم لم يجعلوا ما ابتدعوه سببا لمفارقة الأمة ناهيك أن يعقدوا عليه الولاء والبراء ودعوى التكتل عليه و هذا وصف لازم لكل من عذره علمؤونا ولابد فهم قوم علماء أرادوا الحق في مثل تلك القضايا فاجتهدوا لذلك فأخطؤوا .
📍وبالتالي تعلم أن إيراد الحافظ رحمه الله وأمثاله في مثل هذا المقام على وجه الاستثناء " لا على وجه التنبيه " خطأ من أصله لأنه لايدخل أصلا في جملة المبتدعة لا على وجه الاعتبار ولا على وجه الحقيقة بل يقال فيه كما قاله الألباني وغيره رحمهم الله "سني وقع في بدعة" فصارت تلك البدعة من قبيل خطأ المجتهد كما قاله ابن تيمية .
📌📌فاذا كان الحال كذلك فتأمل في تصور واضح وحقيقة صريحة تنسف إطلاق مقولة "من لم يبدع المبتدع فهو مبتدع" من جذورها وهي كالتالي :
إن الحافظ رحمه الله ومن هو مثله ليس فقط لم يحكموا على بعض المبتدعة (الأشاعرة) بالتبديع مع أن بدعتهم في غاية من الظهور بل زادوا أن شاركوهم في وجه من الوجوه وهم في هذا محققين لأقوالهم عالمين مجتهدين ومع ذلك حكم علمؤونا على الحافظ وأمثاله بأنهم من جملة أهل السنة لما تقدم كما تقدم !
فأين هذا الواقع ممن يحكم على عالم معين بالتبديع لأنه لم يبدع رجلا يختلف أصلا في الحكم عليه مبتدعا لخفاء المسلك و ضبابية الأسباب و احتمالية العذر و التأويل!
📍فصار الأمر إما أن ينفك المقعدة المستحكمة من التقعيد الفاسد فينفكوا من التناقض أو يستطردوا استطراد المقعدين المفسدين المستحكمين فيقعوا في غلو يعرف له نظير !
والله المستعان